
بقلم الدكتور جونزالو كاسترو دي لاماتا، المدير التنفيذي لــ "إرثنا - مركز لمستقبل مستدام"
يزداد تقدير العالم للموروث المحلي ويتعاظم اعترافه بأهميته في تعزيز الاستدامة البيئية - وهي الحقيقة التي أبرزتها نتائج أحدث الدراسات التي أُجريت في غابات الأمازون، التي أكدت أن الغابات الطبيعية التي تنتفع بها المجتمعات المحلية تتمتع بمستويات حماية أعلى من نظيراتها من الغابات الأخرى. وأعزت الدراسة ذلك إلى نمط الحياة التقليدي لأبناء هذه المجتمعات الذين يعتمدون على ما تجود به الغابات من خيرات كمصدر للعيش، ومن ثم يزداد عنايتهم بها، هذا إلى جانب اكتسابهم خبرات هائلة في التعامل مع التنوع الحيوي والنظم البيئية.
لقد استطاعت المجتمعات الإنسانية على مر التاريخ أن تتكيّف مع بيئاتها وأن تكتسب معارف وتبتكر تقنيات وممارسات تعينها على إدارة النظم البيئية؛ لكن هذا لا يعني أن الإنسان تدفعه فطرته بالضرورة لحماية البيئة، بل العكس هو الصحيح. فلو تأملنا التوسّع العالمي للحضارة الإنسانية الحديثة على مدار 50 ألف عام خلت، سنكتشف أن هذا التوسع يرتبط ارتباطًا وثيقًا باختفاء كثير من الثدييات الضخمة في جميع القارات، منها أمريكا الجنوبية التي انقرضت فيها العديد من الكائنات الحية، كالدببة كبيرة الحجم والقطط ذات الأسنان السيفية والكسلان الأرضي والحيوانات المدرعة. لقد انقرضت جميع هذه الحيوانات بسبب اتصالها مع الإنسان بعد هجرته إلى القارة.
ولم يتوقف تأثير المجتمعات الإنسانية عند هذا الحد، بل تسبّب أيضًا في تغيير ملامح الطبيعة على نطاق واسع، ومنها الغابات في نصف الكرة الشمالي التي جُرّفت تمهيدًا لزراعتها، وهو ما أدى في بادئ الأمر إلى توسّع اقتصادي سريع وأفضى في النهاية إلى دخول عصر الصناعة. لحسن الحظ أن المجتمعات الحديثة بدأت تعكس مسارها وتمضي نحو الحفاظ على الطبيعة بعد أن تمكنت من تحقيق الوفرة اللازمة، فازداد تقديرها للنظم البيئية والغابات وضرورة حمايتها. لكن هذا لا ينفى أن غريزة الإنسان، التي تدفعه لاستنزاف الطبيعة وتغيير ملامحها - حتى وإن كان تغييرًا مدمرًا – تتغلب على دوافعه التي تحركه لحماية البيئة.
وهنا يحقُّ لنا أن نتساءل: أي دور يمكن أن يضطلع به الموروث المحلي في تعزيز الاستدامة البيئية؟ الحقيقة هي أن ثمة مجالات يمكن للمعارف والخبرات المحلية أن تسهم فيها بشدة، بشرط أن تُفهم في سياقها الصحيح. فإذا أخذنا، على سبيل المثال، مجال إدارة المياه، سنجد العديد من الشواهد لتقنيات قديمة صممها أسلافنا للحفاظ على المياه وجمعها وتوصيلها للمزارعين – وهي تقنيات لا تزال مستخدمة في عصرنا الحالي. واحدة من أبرز هذه التقنيات هي نظام الأفلاج، المستخدم في الريّ بسلطنة عمان، وهو نظام يعود تاريخه إلى أكثر من ألفي عام، ويرتكز على توزيع المياه بين المستخدمين عبر شبكة معقدة من القنوات يشترك الجميع في الحفاظ عليها. وينظر الكثير إلى هذا النظام باعتباره نظامًا رشيدًا وفعالًا ومنصفًا. وقد أدرجت منظمة اليونسكو في عام 2006 العديد من أنظمة الأفلاج ضمن قائمة التراث العالمي.
ويبرز دور الموروث المحلي أيضًا في مجال الحفاظ على التنوع الجيني بين "الأقارب البرية للمحاصيل". فقد حافظت المجتمعات المحلية على التنوع الحيوي الزراعي لقرون عديدة، بل وأصبحت تقوم على رعاية نباتات ثبُت أهميتها البالغة في الحفاظ على الأمن الغذائي حول العالم. فعلى سبيل المثال، حافظت مجتمعات الأنديز الأصلية في بيرو على 4 آلاف نوع مختلف من البطاطس دأبوا على زراعتها على مدار آلاف السنين. هذا التنوع الجيني يمكنه أن يساعد في زيادة مرونة نبات البطاطس وتكيّفه مع تغير الأراضي الزراعية الناجم عن التغيّر المناخيّ.
كما يرتبط الموروث المحلي بالتراث الثقافي الذي يتجلى في أشكال عدة، منها الهندسة المعمارية والطعام والموسيقى وغيرها من مظاهر الحضارة التي تربط الإنسان بأسلافه وتعزز روابط الانتماء، ليسهم بذلك إسهامًا كبيرًا في معرفة الإنسان بذاته، ومن ثم يصبح عنصرًا من عناصر الاستدامة نظرًا لمساعدته في فهم الموروث المحلي في سياقه الصحيح. وعلى ضوء هذه الأمثلة وغيرها، يجدُر بنا أن نغيّر النظرة السطحية للسكان الأصليين وموروثاتهم، وأن نتعامل معهم باعتبارهم مصدرًا للمعرفة والإلهام، وأنه يمكن استثمار تجاربهم والاستفادة منها في حل مشاكلنا الراهنة.