الاقتصاد الدائري من منظور إسلامي

ربى حناوي مركز إرثنا لمستقبل مستدام


 

 

 

سورة الحجر

 

مازال الفقهاء وعلماء الدين حتى يومنا هذا يجتهدون لتدبر ما تحفل به آيات القرآن الكريم من تفسيرات ومعاني تمثل ثروة حقيقية من المعرفة بالنسبة للمسلمين. وتنطوي بعض الآيات على تفسيرات ومعاني كامنة تحث المسلم على إعادة التفكير في الطبيعة والخلق. ونجد أن العديد من السور والآيات تطمئن القارئ بأن الله الرزاق بيده خزائن الرزق ،و هو من يعطي ويمنع بقدر معلوم تقضيه حكمة الله ومشيئتها، وهو سبحانه وتعالى من يصون هذا الرزق ويحفظه. وتعد دورة الماء مثالاً على نعم الله سبحانه وتعالى على عباده، ورحمة منه لاستمرار الحياة واستدامة العيش.

أما من منظور الاستدامة، فقد خلق الله سبحانه وتعالى الحياة على الأرض بحيث تتطور في دورات (الدائرية) لا في مسار مستقيم متسلسل. وقد خلق الله الكون حسب ميزان ومعيار دقيقين كماً ونوعاً.  ووفقًا لقانون حفظ الكتلة، لا يمكن للطاقة أن تنشأ أو تفنى، إنما هي تتحول ببساطة من هيئة إلى أخرى، ما يعني أن الطاقة، وبتدبير من الله سبحانه وتعالى،  تتحرك في دورات. لكن الاستغلال البشري المفرط للموارد الطبيعية أدى إلى اختلال هذا التوازن الدقيق، فعلى سبيل المثال، بدأ تغير المناخ في التأثير سلباً على دورة الماء مؤدياً إلى حدوث عواصف مطيرة في بعض المناطق، وحالات جفاف في مناطق أخرى.

و لنتناغم مع طبيعة خلق الله و مفهوم الدائرية ، فلا بد من إعادة استخدام كافة المواد والموارد أو إعادة إنتاجها لتلبي أغراض أخرى أو إعادة تدويرها ضمن حلقة مستمرة متواصلة، فالنفايات ببساطة ليست من منتجات الطبيعة.

 

إذن ، ما هو الهدر؟

يحقق النمو الاقتصادي الازدهار والرخاء ويوفر مستويات معيشية أفضل، لكنه يمكن أن يؤدي أيضاً إلى زيادة الاستهلاك والاستخدام المفرط للموارد وإنتاج النفايات بطريقة تؤثر على الاستدامة. يُنتج العالم حوالي ملياري طن من النفايات الصلبة سنوياً ، ويتم إعادة تدوير 7.2% فقط من المواد المستخدمة لتدخل مجدداً في الاقتصاد العالمي. وتواجه مواردنا الطبيعية ضغوطات هائلة نتيجة عمليات استخراج الموارد والإنتاج والإغراق. وبتجاهلنا للفرص السانحة أمامنا اليوم لإطالة فترة عُمر المنتجات، فإننا نتسبب في هدر جسيم كان بالإمكان تفاديه.

 

القيم والهدر؟

 

سورة الاعراف

 

 

تدعو الديانات السماوية الثلاثة (الإسلام والمسيحية واليهودية)، إلى الاعتدال في الاستهلاك وتُبارك هذه القيمة. ويحث الله سبحانه وتعالى المسلمين في القرآن الكريم على  الاستمتاع بما أحله لهم، لكن دون إسراف، حيث قال سبحانه وتعالي في كتابه الكريم "...وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين" (سورة الأعراف،آية٣١). وفي الديانة المسيحية، تُعتبر الشراهة، واحدة من الخطايا السبع المميتة. يقوم الإيمان الحقيقي على وضع رضى الله سبحانه وتعالى في المقام الأول وقبل كل شيء وعلى كبح جماح النفس والابتعاد عن الإفراط، فعلينا أن نغير طريقة تفكيرنا وتركيزنا على المادة. وليس المقصود من الاعتدال هنا أن يتخلى المرء عن متع الحياة ومباهجها، وإنما هي دعوة لأن يتأمل الانسان في حكمة الله في خلقه للطبيعة ودقة نظامها ليحرص على التناغم مع هذا النظام. وتقع على عاتق البشر، باعتبارهم جزء من هذه الطبيعة، مسؤولية أخلاقية، فالإنسان هو خليفة الله في الأرض، وهو مًكلف بالسعي لتحقيق الصالح العام لجميع المخلوقات. على قيمنا ومعتقداتنا أن تقود أفعالنا و قراراتنا اليومية من خلال ما نمارسه في حياتنا من أنشطة وسلوكيات.

 

https://datatopics.worldbank.org/what-a-waste/trends_in_solid_waste_management.html

https://www.circularity-gap.world/2023

 

 

الوعي الاستهلاكي

نعتبر جميعنا كأفراد في المجتمع، وبغض النظر عن خلفياتنا العقائدية، تجاراً ومستهلكين، وبالتالي، فلدى كل منا دوره في تشكيل حركة العالم من حولنا، وفقاً للأولويات والممارسات المجتمعية. ويجب أن يأتي الاستخدام المسؤول للسلع وإدارة النفايات على رأس أولوياتنا، حيث يمكن أن يكون للاستغلال المفرط للموارد والإفراط في الهدر تبعاته الوخيمة  على دورة الموارد وقدرتها على التجدد، ما سيتسبب في اختلال التوازن الطبيعي.

يُمكن لإرساء قيم كالعدالة والاعتدال والامتنان وحس المسؤولية أن تساعد المستهلكين في أن يكونوا أكثر وعياً. فبالاسترشاد بهذه القيم سيتسنى لهم التعرف على أفضل أخلاقيات وممارسات شراء المنتجات واستهلاكها، لتتحول معتقداتهم وقيمهم إلى أفعال حقيقية وتنعكس على قراراتهم اليومية. فالمستهلك الواعي يمكنه استغلال تأثيره و قوته الشرائية من خلال البحث في أصل المنتج وتحري تأثيره على البيئة، وفي دفع المجتمع لترجيح كفة الأسواق المهتمة بنمط العيش السليم والتجارة العادلة، ولتفضيل سلاسل التوريد الخضراء، مع إعطاء الأولوية أيضاً للمنتجات المحلية والمعاد تدويرها، ويتلاءم هذا كله في جوهره، مع مبادئ الاقتصاد الدائري.

 

على مر التاريخ، كانت قيمة الامتنان وتقدير نعم الله هي التي حفزت أسلافنا على الاعتزاز بمواردهم والعمل على صيانتها كيلا تضيع هباءً. وبفضل حكمة أسلافنا وتقاليدهم وفهمهم للنظم البيئية والأنماط الطبيعية من حولهم، استطاعوا أن يعيشوا حياة مريحة رغم صعوبة ظروف البيئة المحيطة، خاصة عندما كانت الموارد شحيحة. لقد نجحوا في إطالة عمر السلع، واستخدامها بطرق مختلفة لتقليل النفايات.

 

أسواق قائمة على الأخلاق

ليتسنى لنا مواجهة تحدي الهدر وإدارة النفايات، علينا  أولاً إصلاح أنماط الإنتاج والاستهلاك للتأثير على سلوك المنتجين والأسواق والمستهلكين. لقد بات من الضرورة بمكان أن نتحول إلى سوق قائمة على الأخلاق، سوق تشجع الاستهلاك والإنتاج المسؤول بما يضمن رخاء المجتمع والنمو الاقتصادي، ويكفل قدرة النظم البيئية على التجدد.

 

وتبرز هنا أهمية دور الأديان والمعتقدات في إرساء وتنظيم القيم التي تُشكل أنشطة المجتمعات وتطورها. ولعل سوق الحلال يُعد خير مثال على قوة السوق لدى المسلمين. فقد اكتسب سوق الحلال شعبية متزايدة بين المستهلكين المسلمين كما ازداد قبولاً بين المستهلكين غير المسلمين. وبلغ حجم سوق الأغذية الحلال العالمية 2,221 مليار دولار أمريكي في عام 2022، مما سمح للسوق بالتوسع ليشمل قطاعات أخرى غير المنتجات الغذائية مثل مستحضرات التجميل والمنتجات الصحية والأدوية. ويؤثر نموذج السوق هذا على سلسلة القيمة بأكملها، بما يتضمن التمويل والتوريد والإنتاج وحقوق العمال والخدمات اللوجستية والتسويق. لا تحقق هذه النماذج النمو الاجتماعي والبيئي فحسب ، بل تركز أيضاً على رضا المستهلكين ودعمهم لهذه النماذج من الاسواق لموافقتها و توافقها مع معتقداتهم وقيمهم.

 

 

سورة البقرة

 

 

لتحقيق التنمية المجتمعية والاقتصادية المسؤولة، علينا أن نتحلى بالقدر الكافي من الاحترام والتقدير تجاه خلق الله سبحانه وتعالى، وأن نتأمل ونتعلم، وأن نتكامل مع الطبيعة ونتناغم مع أنظمتها دون أن نُغفل بطبيعة الحال أهمية العلوم والتكنولوجيا لتعزيز هذه الجهود.

 

3 المقصود من التسويق الحلال هو ترويج وبيع المنتجات والخدمات التي تتماشى مع مبادئ الشريعة الإسلامية، ومتوافقة مع ما ينص عليه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. www.halaltimes.com

4 المجموعة الدولية لأبحاث وتحليل السوق والاستشارات https://www.imarcgroup.com/

ليتسنى لنا بناء اقتصاد دائري، يجب أن تتواءم نماذج التنمية والنمو المجتمعي مع أنظمة قيمنا الدينية والأخلاقية. قد نجحت نماذج التنمية القائمة على القيم في الماضي في تعزيز ازدهار ورفاهية كل من النظم البيئية والمجتمع، دون الإخلال بالقناعات الدينية. ويًمكن لهذه النماذج أن تحقق النجاح في المستقبل أيضا"، طالما أننا نولي اهتماماً وثيقاً للنظم البيئية من حولنا، ونتعلم منها وندعم استمراريتها دون الإخلال بإيقاعاتها ودوراتها الطبيعية.

 

 

ربى حناوي

مركز إرثنا لمستقبل مستدام